وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ، بَعْدَ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ "الصَّمَدِ": وَكُلُّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الَّذِي يُصمَد إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ [أَيْضًا] (١). (٢)
وَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ يَعْنِي: لَا صَاحِبَةَ لَهُ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٠١] أَيْ: هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نَظِيرٌ يُسَامِيهِ، أَوْ قَرِيبٌ يُدَانِيهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٨٨ -٩٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦، ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٥٨، ١٥٩] وَفِي الصَّحِيحِ -صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ-: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ" (٣).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعيدَني كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ".
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا بِمِثْلِهِ. تَفَرَّدَ بِهِمَا مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ (٤).
آخر تفسير سورة "الإخلاص"
(٢) وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى الصمد في الفتاوى (١٧/٢١٤).
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٠٩٩) من حديث أبي موسى، رضي الله عنه.
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٩٧٤) وبرقم (٤٩٧٥).