اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ (١) إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً -زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهَا: سَارَةُ، مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ-وَجَعَلَ لَهَا جُعلا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُريشًا فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ. وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: "أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا (٢) لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ".
فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بالخُلَيفْة -خُلَيْفَةِ (٣) بَنِي أَبِي أَحْمَدَ-فَاسْتَنْزَلَاهَا بِالْخُلَيْفَةِ، فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا كَذَبْنَا (٤) ولتُخرجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لنكشفنَّك. فَلَمَّا رَأَتِ الجِدّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرون رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ. فَأَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ حَاطِبًا فَقَالَ: "يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (٥) مَا غَيَّرت وَلَا بَدّلت، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَهْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَد وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلأضربْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ! لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي حَاطِبٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ (٦).
وَرَوَى مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا ذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: أَنَّهُ بَعَثَ سَارَةَ مَوْلَاةَ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ فِي أَثَرِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَدْرَكَاهَا بِالْجُحْفَةِ... وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبًا مِنْهُ. وَهَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ شَرَعَ اللَّهُ (٧) عَدَاوَتَهُمْ وَمُصَارَمَتَهُمْ، وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَأَصْدِقَاءَ وَأَخِلَّاءَ، كَمَا قَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥١].

(١) في م: "السير".
(٢) في م، أ: "اجتمعنا".
(٣) في أ: "بالحليفة حليفة".
(٤) في م: "ولا كذبنا".
(٥) في م: "وبرسوله".
(٦) ورواه الطبري في تفسيره (٢٣/٣٩) من طريق أبي إسحاق.
(٧) في م: "شرع لهم".


الصفحة التالية
Icon