فِرَارٌ مِنْ زَوْجِكِ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَامْتَحِنُوهُنّ﴾
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ مِحْنَتُهُنَّ أَنْ يُسْتَحْلَفْنَ بِاللَّهِ: مَا أَخْرَجَكُنَّ النُّشُوزُ؟ وَمَا أَخْرَجَكُنَّ إِلَّا حَبُّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وحِرص عَلَيْهِ؟ فَإِذَا قُلْنَ ذَلِكَ قُبِل ذَلِكَ مِنْهُنَّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ يَقِينًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي حَرّمَت الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُشْرِكُ الْمُؤْمِنَةَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ كَانَتْ مُسْلِمَةً وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ بَعَثَتِ امْرَأَتُهُ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِأُمِّهَا خَدِيجَةَ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقّ لَهَا رقَّةً شَديدَةً، وَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا فَافْعَلُوا". فَفَعَلُوا، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ وَصَدَقَهُ فِيمَا وَعَدَهُ، وَبَعَثَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَعْدِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ إِلَى أَنْ أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْعَاصُ بْنُ الرَّبِيعِ سَنَةَ ثَمَانٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهَا صَدَاقًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حدثنا بن إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أبي العاص [ابن الرَّبِيعِ] (١) وَكَانَتْ هِجْرَتُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِسِتِّ سِنِينَ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (٢). وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: "بَعْدَ سَنَتَيْنِ"، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِسَنَتَيْنِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، وَلَا نَعْرِفُ (٣) وَجْهَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ جَاءَ مَنْ حِفْظِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَسَمِعْتُ عَبْدَ بْنَ حُمَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يذكر عن بن إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ ابْنِ الْحَجَّاجِ -يَعْنِي ابْنَ أَرْطَاةَ-عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ. فَقَالَ يَزِيدُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أجودُ إِسْنَادًا وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ".
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَي حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الإمامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (٤)، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أعلم.

(١) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(٢) المسند (١/٢٦١) وسنن أبي داود برقم (٢٢٤٠) وسنن الترمذي برقم (١١٤٣) وسنن ابن ماجة برقم (٢٠٠٩).
(٣) في م: "ولا يعرف".
(٤) المسند (٢/٢٠٧) وسنن الترمذي برقم (١١٤٢) وسنن ابن ماجة برقم (٢٠١٠).


الصفحة التالية
Icon