ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف، بين من جرى بينهم في الأنفس، قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [٥/٤٥].
وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد، فيما دون النفس، وهو قول الشعبي، والثوري، والنخعي، وفاقاً لأبي حنيفة، معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفاً، وبأن أنفس العبيد مال أيضاً كالبهائم، مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى: ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾.
واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:
الأول: كونه عمداً، وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضاً.
الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس.
الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف، ولا زيادة، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ الآية [١٦/١٢٦]، ويقول: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [٢/١٩٤]، فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص، ووجبت الدية، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف، ولا زيادة، فيه القصاص المذكور في الآية، في قوله تعالى: ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾، وكالجراح التي تكون في مفصل، كقطع اليد، والرجل من مفصليهما.
واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل، بل من نفس العظم، فمنهم من أوجب فيه القصاص نظراً إلى أنه يمكن من غير زيادة، وممن قال بهذا مالك، فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل، إلا فيما يخشى منه الموت، كقطع الفخذ، ونحوها.
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام، إلا في السن.


الصفحة التالية
Icon