الآخرة. وقد أشارتعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾ [٢٥/٥٩]، وقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [٢٠/٥]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته. قاله ابن كثير. ومثله قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّات وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَن﴾ [٦٧/١٩]؛ أي: ومن رحمانيته: لطفه بالطير، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء. ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [٥٥/١، ٢] إلى قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [٥٥/١٣]، وقال: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ [٣٣/٤٣] فخصهم باسمه الرحيم. فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما قررتم، وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما". فالظاهر في الجواب، والله أعلم، أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا، لكنه لا يختص بهم في الاَخرة، بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضاً: فيكون معنى: "رحيمهما" رحمته بالمؤمنين فيهما.
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضا : أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ ؛ لأن صلاته عليهم وصلاة الملائكة وإخراجه إياهم من الظلمات الى النور رحمة بهم في الدنيا. وإن كان سبب الرحمة في الآخرة أيضا، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [٩/١١٧]، فانه جاء فيه بالباء المتعلقة بالجيم الجارة للضمير الواقع على النبي صلى الله علية وسلم و المهاجرين والأنصار، وتوبته عليهم رحمة بهم في الدنيا و إن كانت سبب رحمة الآخرة أيضا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لم يبينه هنا، وبينه في قوله: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾ الآية [٨٢/١٩، ١٨، ١٧].
والمراد بالدين في الآية الجزاء. ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ [٢٤/٢٥]، أي جزاء أعمالهم بالعدل.