قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾، أمر الله تعالى نبيه ﷺ في هذه الآية الكريمة، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكاراً لها، وإظهاراً لوجوب التباعد عنها، وبيّن هذا المعنى في قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [١٠٩/١]، إلى قوله: ﴿وَلِيَ دِينِ﴾ [١٠٩/٦]، ونظير ذلك، قول إبراهيم الخليل، وأتباعه، لقومه: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه﴾ الآية[٦٠/٤].
وبيّن تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار، والأوثان والبراءة منهم؛ من فؤائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة، وهو قوله في "مريم": ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [٤٩]، إلى قوله: ﴿عَلِيّاً﴾ [١٩/٥٠].
وقال ابن زيد، وغيره، إن آية: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي﴾ الآية [١٠/٤١]، منسوخة بآيات السيف.
والظاهر أن معناها محكم؛ لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾ الآية، بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا، حتى كأنها قدر ساعة عندهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في آخر "الأحقاف". ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ الآية [٣٥]، وقوله في آخر "النازعات": ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ الأية [٤٦]، وقوله في آخر "الرُّوم": ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ الآية[٥٥].
وقد بينا بإيضاح في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة، وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك، كقوله تعالى: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً﴾ [٢٠/١٠٣]، وقوله: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ [٢٣/١١٣]، فانظره فيه في سورة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [٢٣/١]، في الكلام على قوله: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، صرح في هذه الآية الكريمة: أن أهل المحشر


الصفحة التالية
Icon