ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة ـ أعني مفهوم مخالفتها ـ أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أُخر، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [٩/٧٣و٦٦/٩]، وقوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [٤٨/٢٩]، وقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [٥/٥٤]، كما قدمناه في "المائدة".
قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾، في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة، وكل واحد منها يشهد له قرآن؛ إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال:
الأول: أن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ...﴾ الآية [٢٧/٤٩]، أي: نقتلهم ليلاً، وقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [١٦/٣٨]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ [١٤/٤٤]، وقوله: ﴿أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ [٧/٤٩]، إلى غير ذلك من الآيات، فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه؛ فسموا مقتسمين.
القول الثاني: أن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى، وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون؛ لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ الآية [٢/٨٥]، وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ الآية[٤/١٥٠].
القول الثالث: أن المراد بالمقتسمين: جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، فقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: كهانة، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وقال بعضهم: اختلفه محمد، صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة


الصفحة التالية
Icon