وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل
أنه باطل بلا شك. والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [٢/١٠٦]، فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى: ﴿أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [٤/١٢٢]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثا﴾ ً[٤/٨٧]، ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُُ﴾ [٢/١٤٠]، فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء. ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط؛ فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله، كما هو ظاهر.
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [٥٨/١٢]، فإنه نسخ بقوله: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ...﴾ الآية [٥٨/١٣]، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب: أن له بدلاً، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلاً من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.
المسألة الرابعة: اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف. فمثال نسخ الأخف بالأثقل: نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [٢/١٨٤]، بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [٢/١٨٥]،. ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ...﴾ الآية [٤/١٥]، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [٢٤/٢]، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتاً، وهي قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم"، ومثال نسخ الأثقل بالأخف: نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...﴾ الآية [٨/٦٥]، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...﴾


الصفحة التالية
Icon