وهذا الذي فسرنا به قوله: تعالى ﴿قَيِّماً﴾ هو قول الجمهور وهو الظاهر. وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [١٨/١]؛ لأنه قد يكون الشيء مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر. ولذا جمع تعالى، بين نفي العوج وإثبات الاستقامة. وفي قوله: «قيماً» وجهان آخران من التفسير:
الأول: أن معنى كونه ﴿قيماً﴾ أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمن عليها وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...﴾ الآية [٥/٤٨].
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ الآية [٢٧/٧٦]، وقال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [٣/٩٣]، وقال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية [٥/١٥].
الوجه الثاني ـ أن معنى كونه «قيماً»: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية. وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول.
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله: ﴿قيِّماً﴾ فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب. وأن في الآية تقديماً وتأخيراً، وتقريره على هذا: أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيماً ولم يجعل له عوجاً. ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلاً: إن قوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [١٨/١]، معطوف على صلة الموصول التي هي جملة ﴿أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَبَ﴾ والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة. فجعل «قيِّماً» حال من «الكتاب» يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة، وذلك لا يجوز. وذهب جماعة آخرون إلى أن «قيِّماً» حال من «الكتاب» وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف. وذلك أنهم قالوا: إن جملة ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ ليست معطوفة على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله: ﴿قيِّماً﴾ حال بعد حال، وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجاً، وفي حال كونه قيماً. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد | لمفرد فاعلم وغير مفرد |