وقوله: ﴿سَوَّاكَ﴾، أي خلقك مستوي الأجزاء، معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء في أكمل صورة، وأحسن تقويم. كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [٩٥/٤]، وقوله: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [٤٠٦٤]، وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [٨٢/٦]، وقوله: ﴿رجلاً﴾ أي ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة: رجلة، ومنه قول الشاعر:
كل جار ظل مغتبطا... غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم... لم يراعوا حرمة الرجلة
وانتصاب ﴿رجلاً﴾ على الحال. وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلاً. وقيل: هو تمييز. وليس بظاهر عندي، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ [١٨/٣٧] مضمن معنى الاستبعاد، لأنه يستبعد جداً كفر المخلوق بخالقه، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، ويستبعد إنكار البعث ممن علم الله أن الله خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه رجلاً. كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ...﴾ الآية [٢٢/٥]. ونظير الآية في الدلالة على الاستعباد لوجود موجبه قول الشاعر:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة... يرى غمرات الموت ثم يزورها
لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [١٨/٣٨] بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر: أنت كافر لكن أنا لست بكافر بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني. أي لأنه هو الذي يستحق في أن أعبده، لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني. ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في يس في قوله تعالى: ﴿وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى﴾ [٣٦/٢٢] أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون. وما قدمنا عن إبراهيم في قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ...﴾ الآية [٢٦/٧٧-٧٨]، وقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ الآية [٣٤/٢٦-٢٧].


الصفحة التالية
Icon