َأمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [٦/٣٨].
وقوله: في هذه الآية الكريمة: ﴿فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ [١٨/٤٧] أي لم نترك. والمغادرة: الترك. ومنه الغدر. لأنه ترك الوفاء والأمانة. وسمي الغدير من الماء غديراً، لأن السيل ذهب وتركه. ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته:

هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقوله: أيضاً:
غادرته متعفراً أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
وما ذكره في هذه الآية الكريمة ـ من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحداً ـ جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً...﴾ الآية [٦/٢٢]، ونحوها من الآيات، لأن حشرهم جميعاً هو معنى أنه لم يغادر منهم أحداً.
قوله تعالى: ﴿وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ﴾. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفاً، أي في حال كونهم مصطفين. قال بعض العلماء: صفاً بعد صف. وقال بعضهم: صفاً واحداً وقال بعض العلماء ﴿صفاً﴾ أي جميعاً، كقوله: ﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً﴾ [٢٠/٦٤] على القول فيه بذلك. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل ـ أن النَّبي ﷺ قال: "إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين. يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب". قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية. ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه، والحمد لله. انتهى كلام القرطبي. والحديث المذكور يدل على أن ﴿صفا﴾ في هذه الآية يراد به صفوفاً. كقوله: في الملائكة: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾ [٨٩/٢٢]. ونظير الآية قوله: في الملائكة: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾ [٧٨/٣٨-٣٩].
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالاً من أحوال عرض


الصفحة التالية
Icon