كون المعرض كالحمار، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ...﴾ الآية [٧٤/٤٩-٥٠]، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ...﴾ الآية[٤١/١٣]، ومنها المعيشة الضنك والعمى، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [٢٠/١٢٤]، ومنها سلكه العذاب الصعد، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾ [٧٢/١٧]، ومنها تقبيضي القرناء من الشياطين، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [٤٣/٣٦]، إلى غير ذلك من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة، الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا. وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره، القاصر نظره على الحياة الدنيا. وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ﴾ [٥٣/٢٩-٣٠]، وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافلي عنه في قوله: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [١٨/٢٨] كما تقدم إيضاحه.
وقوله: في هذه الآية: ﴿مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾، أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزوال باليد كالزنى. وقد بينا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" وجه الجمع بين قوله: ﴿و َمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ...﴾ الآية [١٨/٥٧]، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ [١١/١٨]، ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان: أحدهما: أن كل من قال الله فيه: ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحد أظلم من واحد منهم. وإذاً فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضاً، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني ـ أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله. وعليه فالمعنى في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [١٨/٥٧]،
لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه