سنه وسن امرأته، وكونها عاقراً. وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة «آل عمران» في قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [٣/٣٧-٣٨]، فقوله: ﴿هنالك﴾ أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم.
وقال بعضهم: ﴿هنالك﴾ أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان. وقوله: في دعائه هذا: ﴿رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى﴾ [١٩/٤]، أي: ضعف.
والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾، الألف واللام في ﴿الرأس﴾ قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيباً: إنتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ـ انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مراراً: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:

ضيعت حزمي في إبعادي الأملا وما أرعويت وشيباً رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا