الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله ﷺ قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، قالوا: نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي ﷺ حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة: أليس قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركنا صدقة". ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثني ديناراً، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ" وفي لفظ عند أحمد: "لا تقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً". ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النَّبي ﷺ يقول: "إن النَّبي لا يورث" ولكن أعول من كان رسول الله ﷺ يعوله، وأنفق على من كان رسول الله ﷺ ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله: "لا نورث" يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفاً: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد رسول الله ﷺ نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النَّبي ﷺ بقوله: "لا نورث" نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول: أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني: أن قول عمر يريد ﷺ نفسه لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو ﷺ يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضاً.
الوجه الثالث: ما جاء من الأحاديث صريحاً في عموم عدم الإرث المال في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول