الآية أصل في الهجرة والعزلة، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار قال: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ فيما نويت إلى الصواب. وما أشار إليه جل وعلا من أنه بارك العالمين في الأرض المذكورة، التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله: ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ : بينه في غير الموضع. كقوله: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾. ومعنى كونه (بَارَكْنَا فِيهَا). هو ما جعل فيها من الخصب والأشجار والأنهار والثمار. كما قال تعالى: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها.
وقال بعض أهل العلم: ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس. وجاء في ذلك حديث مرفوع، والظاهر أنه لا يصح. وفي قوله تعالى: ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامته دينه، واجب. وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه جعل الجميع صالحين. وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، وقوله: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وقد أشار تعالى في سورة "مريم" إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة، وذلك في قوله: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة: ﴿نَافِلَةً﴾ قال فيه ابن كثير: قال عطاء ومجاهد: نافلة عطية. وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عتيبة: النافلة: ولد الولد، يعني أن


الصفحة التالية
Icon