وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم. ومنه قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به، فقيل: هو رفع خبر مبتدأ محذوف، أي أنتم كالذين من قبلكم. وقيل نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كفعل الذين من قبلكم. والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل التشبيه في العذاب. ثم قيل: العامل محذوف. أي لعنهم وعذبهم كما لعن ابن من قبلهم. وقيل بل العامل ما تقدم. أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم.
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فرق غير مؤثر، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر، وألغى الوصف الفارق، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: ﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ﴾ هو الحكم، والذين من قبلهم الأصل، والمخاطبون الفرع.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنا معمر عن الحسن في قوله ﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ﴾ قال بدينهم. ويروى عن أبي هريرة.
وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا. وحقيقة الأمر: أن الخلاق هو النصيب والحظ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له، كما يقال: قسمه الذي قسم له، ونصيبه الذي نصب له أي أثبت. وقطه الذي قط له أي قطع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّما يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الْدُّنْيا من لاَ خَلاَق لَهُ في الآخِرَةِ". والآية تتناول ما ذكره السلف كله، فإنه سبحانه قال: ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً﴾ فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد، وتلك القوة


الصفحة التالية
Icon