جداً. ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه، وأن الوحي ينزل مطابقاً لقوله مراراً. وذلك أنه رضي الله عنه قال: ما سألت النَّبي ﷺ عن شيء أكثر ما سألته عن الكلام حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء". وهذا الإرشاد من النَّبي ﷺ واضح كل الوضوح في أنه يريد: أن الكلالة هي ما عدا الولد بالوالد. لأن آية الصيف المذكورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد. وقوله فيها: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ يدل بالإلتزام على أنها لا أب فيها، لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب. وذلك مما لا نزاع فيه. فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، ولم يفهم عمر رضي الله عنه الإشارة النبوية المذكورة، فالكمال التام له جل وعلا وحده، سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
ومنها: اجتهاد ابن مسعود رضي الله عنه في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها. فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله: لها كمهر نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها العدة. وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النَّبي ﷺ قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق، ففرح بذلك.
ومنها: اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر رضي الله عنه أولى من غيره بالإمامة، لأن النَّبي ﷺ قدمه على غيره في إمامة الصلاة.
ومنها: اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر، سواء قلنا إنه من المصالح المرسلة، أو قلنا إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها. ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة. ومن ذلك اجتهادهم في الجد والإخوة، والمشتركة المعروفة بالحمارية واليمية.
ومنها: اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه.
ومنها: اجتهادهم في جلد السكران ثمانين، قالوا: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فمدوه حد الفرية. وأمثال هذا كثيرة جداً. وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم


الصفحة التالية
Icon