تحريم ما سكت عنه تبديلاً لحكمه. وقد ذم الله تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرماً: من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته" فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحاً بمسألته عن حكم ما سكت عنه، فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه ورأيه؟! يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفواً عفا الله لعباده عنه، وكان البحث عنه سبباً لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم. فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه ـ يدل على أن عفو منه، فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص، كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه، فحرم من أجل مسألته، بل كان الواجب عليه ألا يبحث عنه. ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه. فهكذا الواجب عليه ألا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم أصله الذي يلحق به.
قالوا: وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾. وقد قال النَّبي ﷺ في الحديث الصحيح "ذَرونِي ما تَرَكْتُكم فإنما هَلَكَ ؟لَّذِينَ من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أَنْبيَائهم، فإذا نَهْيتُكم عن شيء فَ؟جْتَنِبُوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما اسْتَعطْتُم" فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم. ولا فرق في هذا بين حياته وبين مماته. فنحن مأمورون أن نتركه ﷺ وما نص عليه، فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه ـ فتأمله فإنه واضح، ويدل عليه قوله في نفس الحديث: "وَإذا نَهَيْتُكُمْ عن شيء فاجْتَنِبُوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما اسْتَطَعْتُم" فجعل الأمور ثلاثة لا رابع لها: مأمور به فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ومنهي عنه فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية. ومسكوت عنه فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عليه.
وهذا حكم لا يختص بحياته فقط، ولا يخص الصحابة دون من بعدهم، بل فرض علينا نحن امتثال أمره، واجتناب نهيه، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه. وليس ذلك الترك جهلاً وتجهيلاً لحكمه، بل إثبات لحكم العفو وهي الإباحة العامة، ورفع الحرج عن فاعله.