أفضل من التقصير، لقوله ﷺ "رحم الله المحلقين" قالوا: يا رسول الله: والمقصرين. قال: "رحم الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين؟ فقال: "والمقصرين" في الرابعة، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه. فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مراراً: على أن الحلق نسك لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النَّبي ﷺ له بالرحمة، ودل تأخير الدعاء للمقصرين، إلى الثالثة أو الرابعة: أن التقصير مفضول، وأن الحلق أفضل منه، والتقصير مع كونه مفضولاً: يجزئ بدلالة الكتاب، والسنة والإجماع، لأن الله تعالى يقول ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: ٢٧[ وقد روى الشيخان، وغيرهما: التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فمن ذلك حديث جابر: أنه حج مع النَّبي ﷺ وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا". وفي الصحيحين، عن ابن عمر قال: حلق النَّبي ﷺ وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين، قال: قصرت عن رسول الله ﷺ بمشقص على المروة وحديث: "رحم الله المحلقين"، ثم قال بعد ذلك: "والمقصرين" إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير، فقال الشافعي، وأصحابه: يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعداً، أو تقصيرها، لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير، لأن الثلاث جمع.
وقال أبو حنيفة: يكفي حلق ربع الرأس، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة.
وقال مالك، وأحمد وأصحابهما: يجب حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع، ولا ثلاث شعرات خلافاً للحنفية والشافعية، لأن الله تعالى يقول ﴿مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ﴾ ولم يقل:


الصفحة التالية
Icon