تقبلها منه، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين أن آية: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾، التي جعل الله فيها التوبة بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ عامة، وأن آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: ٢٣]، خاصة بالذين رموا عائشة رضي الله عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق، والعلم عند الله تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة؛ لأن ذلك هو صريح قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾، وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكرو للذكور، أو الإناث للإناث، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية، من قذف الذكور للإناث؛ للجزم بنفي الفارق بين الجميع.
وقد قدمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة "الأنبياء"، في كلامنا الطويل على آية: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ [الانبياء: ٧٨].
المسألة الثانية: اعلم أن المقرر في أصول المالكية، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في "مراقي السعود"، بقوله:

وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع
ولذا لو قال إنسان: هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين، وبني زهرة، وبني تميم إلا الفاسق منهم، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية، إلا لجملة الأخيرة التي هي: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، فقد زال عنهم الفسق، ولا يقول: ولا تقبلوا لهم شهادة


الصفحة التالية
Icon