﴿كُلٌّ﴾، أي: كل من المصلين قد علم صلاة نفسه، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه، وعلى هذا القول فقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، تأسيس لا تأكيد، أما على القول بأن الضمير راجع إلى ﴿اللَّهَ﴾، أي: قد علم الله صلاته يكون قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ كالتكرار مع ذلك، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي.
وقد علمت أن المقرر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد؛ كما تقدم إيضاحه. والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحا يعلمهما الله، ونحن لا نعلمهما؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الاسراء: ٤٤].
ومن الآيات الدالة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، قوله تعالى في الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤]، فأثبت خشيته للحجارة، والخشية تكون بإدراك. وقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: ٧٢]، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك، والآيات والأحاديث واردة بذلك، وهو الحق. وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحا، ولا مانع من الحمل على الظاهر، ونقل القرطبي عن سفيان: أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، اهـ.
ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قول الأعشى:
تقول بنتي وقد غربت مرتحلا | يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا |
عليك مثل الذي صليت فاغتبطي | نوما فإن لجنب المرء مضجعا |
وقوله: ﴿صَافَّاتٍ﴾، أي: صافات أجنحتها في الهواء. وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته، واستحقاقه العبادة وحده، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾ [الملك: ١٩]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ