كلّمهم، وأن قول عائشة رضي اللَّه عنها ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي اللَّه عنها، وممن تبعها.
وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدّمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبيّ ﷺ في أحاديث متعدّدة، ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر ﷺ أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.
والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه ﷺ في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب، ولا في السنة شىء يخالفها، وتأويل عائشة رضي اللَّه عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه؛ لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبيّ ﷺ بتأوّل بعض الصحابة بعض الآيات، وسنوضح هنا إن شاء اللَّه صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه ﷺ من غير معارض صريح، علم بذلك رجحان ما ذكرنا، أن الدليل يقتضي رجحانه.
أمّا المقدمة الأولى، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في صحيحه: "حدّثني عبد اللَّه بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبيّ اللَّه ﷺ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها، ثم مشى واتّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسرّكم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا" ؟ قال: فقال عمر: يا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، قال قتادة: "أحياهم اللَّه له، حتى أسمعهم توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا"، فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبيّ ﷺ أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول ﷺ من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر ﷺ في ذلك


الصفحة التالية
Icon