الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللَّه بكم للاحقون"، ثم قال مسلم رحمه اللَّه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه الأسدي عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمانبن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه ﷺ يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: "السلام على أهل الديار"، وفي رواية زهير: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم للاحقون، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية"، انتهى من "صحيح مسلم".
وخطابه ﷺ لأهل القبور بقوله: "السلام عليك"، وقوله: "وإنا إن شاء اللَّه بكم"، ونحو ذلك يدلّ دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شكّ أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدًّا صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء اللَّه ذكر حديث عمرو بن العاص الدالّ على أن الميّت في قبره يستأنس بوجود الحيّ عنده.
وإذا رأيت هذه الأدلّة الصحيحة الدالَّة على سماع الموتى، فاعلم أن الآيات القرءانية؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، وقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ لا تخالفها، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها، وذكرنا دلالة القرائن القرءانية عليه، وأن استقراء القرءان يدلّ عليه.
وممّن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية، فقد قال في الجزء الرابع من "مجموع الفتاوى" من صحيفة خمس وتسعين ومائتين، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين، ما نصّه: "وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: "ما من رجل يمرّ بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلاّ ردّ اللَّه عليه روحه حتى يردّ عليه السّلام". وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي، عن النبيّ ﷺ أنّه قال: "إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، قالوا: يا رسول اللَّه؟ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن اللَّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه، مما يبيّن أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذّب إذا شاء اللَّه ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذّبة، ولذا أمر النبيّ ﷺ بالسّلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلّم


الصفحة التالية
Icon