مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}.
لما بيَّن جلَّ وعلا أن أكثر الناس وهم الكفّار لا يعلمون، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم غافلون، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة، مع شدّة وضوع أدلّتها بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾، والتفكر: التأمّل والنظر العقلي، وأصله إعمال الفكر، والمتأخرون يقولون: الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات، وأمّا حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل.
وقال الزمخشري في "الكشاف" :﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾، "يحتمل أن يكون ظرفًا كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والفكر لا يكون إلاّ في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين؛ كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك: تفكّر في الأمر أجال فيه فكره، و ﴿مَا خَلَقَ﴾ متعلّق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عليه ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً﴾، أي: ما خلقها باطلاً وعبثًا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بدّ لها أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب.
ألا ترى إلى قوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾، كيف سمّى تركهم غير راجعين إليه عبثًا، والباء في قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها، وكذلك المعنى: ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به.
فإن قلت: إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه؟
قلت: معناه أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبّروا ما أودعها اللَّه ظاهرًا وباطنًا، من غرائب الحكم الدالَّة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بدّ لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبّر أمرها على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير، وأنّه لا بدّ


الصفحة التالية
Icon