قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرءانية بكثرة في سورة "مريم"، في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾، إلى قوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾.
اعلم أوّلاً: أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيلأو إسحاق؟ وقد وعدنا في سورة "الحجر"، بأنا نوضح ذلك بالقرءان في سورة "الصافّات"، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرءان العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيللا إسحاقأحدهما في "الصافّات"، والثاني في "هود".
أمّا دلالة آيات "الصافّات" على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، قال بعد ذلك عاطفًا على البشارة الأولى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شىء غير المبشّر به في الثانية؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه:
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسمعيل، وأن البشارة بإسحاقنصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة "النحل"، في الكلام على قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، أن المقرّر في الأصول: أن


الصفحة التالية
Icon