وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}، وقوله هنا: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾، أي: احكم بيني وبينهم حكمًا، وهذا الحكم الذي سأل ربّه إيّاه هو إهلاك الكفّار، وإنجاؤه هو ومن آمن معه، كما أوضحه تعالى في آيات أُخر؛ كقوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله هنا عن نوح: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قد بيَّن في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا؛ كقوله هنا: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله هنا: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
و ﴿الْمَشْحُونِ﴾ المملوء، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
شحنا أرضهم بالخيل حتى | تركناهم أذلّ من الصّراط |
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾.
قال أكثر أهل العلم: إن أصحاب الأيكة هم مدين. قال ابن كثير: "وهو الصحيح"، وعليه فتكون هذه الآية بيّنتها الآيات الموضحة قصّة شعيب مع مدين، ومما استدلّ به أهل هذا القول، أنّه قال هنا لأصحاب الأيكة: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وهذا الكلام ذكر اللَّه عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعدّدة؛ كقوله في "هود" :{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا