والثاني من الأمرين: أن غاية ما في ذلك، أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير، وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس، بقرب مجيئها، لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
وما يلي المضاف يأت خلفا... عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل أي ذو كرم وذو عدل كما قال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
ونعتوا بمصدر كثيرا... فالتزموا الإفراد والتذكيرا
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، ففي قوله تعالى سورة النساء: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: ١٥٩]، أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب.
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ راجع إلى الكتابي، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي.
فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه:
الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك.
وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١٥٧]، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ﴾ أي عيسى، ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾ أي عيسى ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي عيسى ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي عيسى ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ أي عيسى ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ أي عيسى، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي عيسى ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ﴾