وما ذكره جل وعلا في آية الجاثية هذه، ذكره في آيات أخر بلفظه كقوله تعالى في البقرة: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١-٢٥٢]، وقوله تعالى في آل عمران: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٧-١٠٨]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿تِلْكَ﴾ بمعنى هذه.
ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب كقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ٢]، بمعنى هذا الكتاب، كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها | فعمدا على عيني تيممت مالكا |
أقول له والرمح يأطر متنه | تأمل خفافا إنني أنا ذلكا |
وقد أوضحنا هذا المبحث وذكرنا أوجهه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب" في أول سورة البقرة وقوله تعالى: ﴿نَتْلُوهَا﴾ أي نقرؤها عليك.
وأسند جل وعلا تلاوتها إلى نفسه لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه جل وعلا.
ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٩].
فقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أي قرأه عليك الملك المرسل به، من قبلنا مبلغا عنا، وسمعته منه، ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤].
وسماعه ﷺ القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له هو معنى تنزيله إياه