مع أن الإخبار عن جميع ما ذكر إخبار عن محسوس، والتقليد الذي استدلوا به عليه إخبار عن معقول مظنون.
والفرق بين الأمرين قدمناه قريبا، فليس شيء من ذلك تقليدا أعمى بدون حجة.
وأما استدلالهم على التقليد المذكور بجواز شراء اللحوم والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها، فهو ظاهر السقوط أيضا؛ لأن الاكتفاء بقول الذابح والبائع ليس بتقليد أعمى في حكم ديني لهما.
وإنما هو عمل بالأدلة الشرعية، لأنها دلت على أن ما في أسواق المسلمين من اللحوم والسلع محمول على الجواز والصحة، حتى يظهر ما يخالف ذلك.
ومما يدل على ذلك، ما صح عنه ﷺ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "إن قوما قالوا يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه أنتم وكلوا"، قال: وكانوا حديثي عهد بالكفر" قال المجد في المنتقى بعد أن ساق الحديث: رواه البخاري والنسائي وابن ماجه، وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد. اهـ منه.
وقد أجمع العلماء على هذا، فالعمل به عمل بالدليل الشرعي، لأن الله لو كلف الناس ألا يشتري أحد منهم شيئا حتى يعلم حليته فوقعوا في حرج عظيم تتعطل به المعيشة ويختل به نظامها.
فأجاز الله تعالى ذلك برفع الحرج كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، فالاستدلال به على التقليد الأعمى فاسد، لأنه أخذ بالحجة والدليل، وليس من التقليد.
وأما استدلالهم على التقليد بأن الله لو كلف الناس كلهم الاجتهاد، وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا، فهو ظاهر السقوط أيضا.
ومن أوضح الأدلة على سقوطه أن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، لم يكن فيهم تقليد رجل واحد بعينه هذا التقليد الأعمى.


الصفحة التالية
Icon