القرآن أقوى سندا وإن كانت السنة أظهر دلالة، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة لأنه يقدم عموم ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]، حديث "أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث، وقدم عموم قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، على الأحاديث الواردة بالجهر بآ مين لأن التأمين دعاء، والدعاء مامور بإخفائه في الآية المذكورة.
فالآية أقوى سندا وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع. ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا.
وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضا في الثانية من سجدتي الحج لأن نص الآية الكريمة فيها كالصريح في أن المراد سجود الصلاة، لأن الله يقول فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ [الحج: ٧٧]، فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة.
والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢].
ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٩٨].
قالوا لأن معنى قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي: صل لربك متلبسا بحمده، وكن من الساجدين في صلاتك.
ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا﴾ [الحج: ٧٧]، أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾.
ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم، لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله ﷺ ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته، والمخطىء منهم ماجور في اجتهاده معذور في خطئه، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة


الصفحة التالية
Icon