وقد نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبينا أن المسخور منه قد يكون خيرا من الساخر.
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل، واستهزاؤه به.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: ٧٩].
وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [البقرة: ٢١٢] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٤-٣٦].
فلا ينبغي لمن رأى مسلما في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه لهذه الآيات التي ذكرنا.
قوله تعالى: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
أي لا يلمز أحدكم أخاه كما تقدم إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩].
وقد أوعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]، والهمزة كثير الهمز للناس، واللمزة كثير اللمز.
قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقارا وازدراء، واللمز باللسان، وتدخل فيه الغيبة.
وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [الحجرات: ١٢]، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: ١٢]، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.


الصفحة التالية
Icon