شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: ١٢] وقوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١]، راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله، لأن من عرف الله أطاعه وحده.
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حيي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض.
وقد بينا معنى: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِِنْسِ﴾ [الأعراف: ١٧٩] إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، إرادة دينية شرعية.
وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢]، وقال: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧].
والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية، ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِِنْسِ﴾ [الأعراف: ١٧٩]، وقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، وبين قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية، وهي ملازمة للأمر والرضا، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا


الصفحة التالية
Icon