قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾.
نفى الله جل وعلا عن نبيه ﷺ في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة عن نبيه ﷺ رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون، فقد نفاها صريحا بحرف النفي الذي هو ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿فَمَا أَنْتَ﴾ وأكد النفي بالباء في قوله: ﴿بِكَاهِنٍ﴾ وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمنا بـ ﴿أَمْ﴾ المنقطعة في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ﴾، لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي.
وقد جاءت آيات أخر بنفي هذه الصفات عنه ﷺ كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول القلم: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ٢] وقوله في التكوير ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين أعني الكهانة والشعر: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: ٤١-٤٢]، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الشعراء وغيرها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ أي ننتظر به حوادث الدهر، حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي:
أمن المنون وريبه تتوجع | والدهر ليس بمعتب من يجزع |
لأن الضمير في قوله: وريبه يدل على أن المنون الدهر، ومن ذلك أيضا قول الآخر: تربص
بها ريب المنون لعلها | تطلق يوما أو يموت حليلها |
وقال بعض العلماء:
﴿الْمَنُونِ﴾ في الآية الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب، ومنه قول أبي الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبي بضرب | يؤلف بين أشتات المنون |
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبا، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى.