الأصول على أن النبي ﷺ لم يكن يجتهد، والذين قالوا إنه قد يقع منه الاجتهاد، استدلوا بقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣].
قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد، لما قال ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ الآية، ولما قال: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾، ولا منافاة بين الآيات، لأن قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ معناه أن النبي ﷺ لا يبلغ عن الله إلا شيئا أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه شعر أو سحر أو كهانة، أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك، وأسر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك، وقد أوضحنا هذا في غير هذا الموضع.
قوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾.
المراد بـ ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ في هذه الآية: هو جبريل عليه السلام، والمعنى أنه ﷺ ﴿عَلَّمَهُ﴾ هذا الوحي. ملك ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ هو جبريل.
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين:
أحدهما: أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم، علمه جبريل النبي ﷺ بأمر من الله.
والثاني: أن جبريل شديد القوة.
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما الأول منهما وهو كون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢-١٩٤]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤]، وقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ