هذا الكتاب المبارك، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء، كلاهما يشهد له قرآن:
أحدهما: أن المراد بقوله: ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾، أي قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٣٩-٤١]، فإن قوله: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ [النازعات: ٤٠]، قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهي نفسه عن هواها.
والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام، هو الله تعالى: أي خاف هذا العبد قيام العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصائها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى في شأن الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١]، أن قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٤٧]، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة.
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾.
قد بينا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النحل: ١٤]، جميع الآيات القرآنية الدالة على تنعم أهل الجنة بالسندس والإستبرق، والحلية بالذهب والفضة، وبينا أن جميع ذلك يحرم على ذكور هذه الأمة في دار الدنيا.
قوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾.


الصفحة التالية
Icon