قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾.﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ أي ممن كان معها. و"إذ" بدل من "مريم" بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله: ﴿مَكَاناً شَرْقِيّاً﴾ أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً﴾ فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في "آل عمران" والحمد لله.
قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ قيل: هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه