وعنه أيضا "وصمتا" بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس "وصمتا" بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى ﴿قُولِي﴾ بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
الثالثة ـ من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم". وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".