﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام أرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: "هي لحوقهم بالبراري والجبال" قوله تعالى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ بدلا من الهاء والألف في ﴿كَتَبْنَاهَا﴾ والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ﴾ الاستئناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾ قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل،


الصفحة التالية
Icon