في أكثر آرائه بعيداً عما هو من غايته، مُدفعاً إلى ما ينزل عن حقه؛ حتى جاء رأيه الذي علمتَ في مذهب الصرفة دون قدره بل دون علمه، بل دون لسانه، وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب
وكانوا هم الذين افتتحوه وابتدعوه، لكان ذلك مذهباً من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليُوهِموا أنهم قد عرفوا!
وإلا فإن من سُلبَ القدرة على شيء بانصراف وهمِهِ عنه، وهو بعدُ قادر عليه مُقرِن له، لا يكون تعجيزه بذلك في البرهان إلا كعجزه هو عن البرهان، إذ كان لم يعجزه عدم القدرة.
ولكن أعجزه القدر وهو لا يغالب والمرء ينسى ويذكر، وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزاً، وقد يعتريه السأم ويتخوَّنه الملال، فينصرف عن الشيء وهو له مطيق، وذلك ليس أحق بأن يسمى عجزاً من
أن يسمى تهاوناً، ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة.
على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام، يصوبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب
ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك، ولكن القوم - عفا الله عنهم - أخرجوا أنفسهم من هذا كله، وكفوها مؤنته بكلمة واحدة تعلقوا عليها، فكانوا فيها جميعاً كقول
هذا الشاعر الظريف الذي يقول:
كأننا والماء من حولنا | قومْ جلوس حولهم ماء.... |
"لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن لما قالها لله تعالى وجعله كلاماً
له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته... قال: وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره ".
نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافياً أيضاً؛ لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رأياً له، أصاره كافياً لا يحتاج إلى غيره..!
وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله تعالى؛
وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب فيه:
(إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤).
وهذا زعئم رده الله على أهله وأكذَبهم فيه وجعل القول به ضرباً من العمى (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥).
فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد.
أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في مُنخُل... ولذلك لم يسلم هو