معها في الأصلاب دهراً طويلاً حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردت عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالة بعد سلالة، وجيل بعد جيل، من قوم قد مروا منذ أولهم في أدوار الارتقاء على
سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم في أثناء ذلك طبغ من طباع الاجتماع، ولا رذلت شِيمة، ولا التوت طريقة، ولا سقطت مروءة، ولا ضل عقل، ولا غوت نفس ولا عرض لهم بغى، ولا أفسدتهم عادة. وأين هذا كله أو بعضه من قوم كانوا بالأمس عاكفين على الأوثان
فأكل بعضهم بعضاً، ولهم العادات المرذولة، والعقائد السخيفة، والطباع الممزوجة، إلى غيرها مما يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضيلة: كحمية الأنف، واستقلال النفس، ومما كان من
عكس ذلك: كالتسليم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ، والمضي على ما وجدوا، ثم الموت على ما ولدوا؛
لا جَرم أن في ذلك سراً من أسرار الفطرة، فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان للفصاحة وأساليبها، بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية وما بلغوا منها كما فصلناه في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم، تنبعث فيها الإرادة بأخلاق من معاني الكلام الذي
يجري فيها. وتعتزُّهم على أخلاقهم وطباعهم فتصرفهم في كل وجه، كأنها إرادة جبار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد...
ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سر هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم برده، ولا حيلة لهم معه، مما يشبه على التمام أساليب الاستهواء في علم النفس، فاستبد بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه، حتى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون
في نقضها واستقاموا لدعوته وهم يبالغون في رفضها.. فكانوا يفرون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه، إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. والمكابرة في الأمور
النفسية لا تتجاوز أطراف الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور ويكابر فيه، إذ هو أداة مغلبة تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يرمى بها في حق أو باطل تمتنع على من
أرادها لأحدهما أو لهما جميعاً...
... قلنا: لولا ذلك على الوجه الذي عرفت، لما صار أمر القرآن إلى أكثر مما ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لما كان له في أولئك العرب أمر ألبتة؛ لأنهم قوم أميون، قد تأثلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيء الكثير من العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل
الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم ومَن جَنحَ إلى التأله منهم: كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة، وغيرهما.
وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه، ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون، ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمراً من ذلك ما حفلوا به؛ ولا استدعى هو منهم
الإجابة؛ لأن لهم منزعاً في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من دول الأرض، ولا أفلح في ذلك من حاوله من ملوك هذه الدولة في الأكاسرة والقياصرة والتبابعة. بل خُلقوا عرباً يشرِقون ويغرِبون مع


الصفحة التالية
Icon