قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكرهِ في القرآن، إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللدُّ والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن
للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مَظنةَ المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن، مُولد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أن
العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف وبالله من سموّ هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر.
أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثم بعشر سوَر مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب، وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور... ثم قرَن
التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزَّهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفجُ الرَّمادُ الهامدُ، فقال:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤).
فقطع لهم أنهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله، ولا يقولها عربي في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفياً
وتعجزهم آخر الأبد فما فعلوا ولا طمعوا قط أن يفعلوا.
وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك ولا تُقارب المطمعة فيه، وقد
انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف، كما يبذل المُحرَجُ آخر وُسْعه، وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهن حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا:
ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتِب أساطير الأولين، وإنما يعلِّمه بشر وأمثال ذلك مما