شيء - فيما يعرفونه - لا يستقيم لامرئ من الناس ببيان ولا عصبية ولا هوى ولا شيء من هذه الفروع النفسية، وليس إلا أن ينقض الفطرة فيستقيم له، وما في نقض هذه الفطرة إلا أن يبدأ
الخلق فيكون إلهاً، وهذا كما ترى فوق أن يسمَّى أو يعقل.
وقد استيقن بلغاء العرب كل ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة، إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوة ويحيل الطبع ويخاذل النفس مصادَمة لا حيلة ولا خدعة، وإنما سبيل المعارضة الممكنة التي يطمع فيها أن يكون لصاحبها جهة من جهات الكلام لم تؤخذ عليه، وفن من فنون المعنى لم
يستوف قبله، وباب من أبواب الصنعة لم يصفق من دونه، وأن تكون وجوه البيان له معرَضة يأخذ في هذا ويعدل عن ذلك؛ حتى يستطيع أن يعارض الحسنة بالحسنة، ويضع الكلمة بإزاء الكلمة،
ويقابل الجملة بالجملة، ثم يصير الأمر بعد ذلك إلى مقدار التأثير الذي يكون لكلامه، وإلى مبلغه في نفوس القوم؛ من تأثير الكلام الذي يعارضه.
ومذهب الحيلة على التأثير مذهب واسع لا يضيق بالبلغاء كلهم إذا هم تكافاوا في الصناعة والبصر بأسبابها؛ لأن كل واحد منهم ينتحي بكلامه جهة من جهات النفس، ويأخذ في سبيل من
طباعها وعاداتها، وهو لا بد واحد في كلام غيره موضع فترة من الطبع أو غفلبة من النفس، أو أثراً من الاستكراه يبعث عليه باعث من أمور كثيرة تعتري البلغاء في صناعتهم، فيضطرب لها بعض
كلامهم، ويضعف بعض معانيهم، ويقع التفاوت في الأسلوب الواحد ضعفاً وقوة. فإذا هو أصاب ذلك فعسى أن يقابله من نفسه بطبع قوي ونفس مجتمعة، ووزن راجح، أو شيء من أشباهها،
فيكون قد ظفر بمدخل يسلك منه إلى المعارضة، ويظهر به فضل كلام على كلام، ومقدار طبع من طبع، وقوة نفس من نفس، ولولا ذلك وأنه من طباع البلغاء؛ ومما لا يسلم منه ذو طبع، لما أمكن أن يتناقض شاعران أو يتساجل راجزان، أو يتراسل كاتبان، أو يتقارض خطيبان، أو يواجه
كلام كلاماً في معرض المقابلة، أو يرجح به في ميزان المعادلة.
فأما أن يكون الكلام الذي يقصد إليه بالمعارضة كهذا القرآن: أحكم دقيقه وجليله، وامتنع كثيره وقليله، وأخذ منافذ الصنعة كلها، واستبرأ المعنى الذي هو فيه إلى غايته، وقطع على صاحبه
أمر الخيار في الوجه الذي يعارض منه، وكان من وراء ذلك باباً واحداً في امتناعه، لا موضع فيه للتصفح، ولا مغمز للثقاف، ولا مورد للمقالة؛ وقد توثقت علائقه، وترادفت حقائقه، وتواردت
على ذلك دقائقه: ثم كانت جملته قد أحرزت عناصر الفطرة البيانية وجمعت فنونها، واحتوت من الكمال الفني ما كان إحساساً صرفاً في نفوس أهله، يشعرون به وجداناً، ولا يقدرون على إظهاره
بياناً - فلذلك مما لا سبيل للنفس إلى المكابرة في بحال من الأحوال، أو ابتغائه بالمعارضة ومطاولته بالقدرة على مثله، إذ هو بطبيعته المعجزة لا ترى فيه النفس إلا مثالاً للعلم تعرف به مقدار ما انتهت إليه من إحكام العمل.
وهذا هو سبيل آثار النوابغ المُلهمين الذين انفرد كل منهم بحيزه من الفن؛ فإن المعجز من هذه الآثار - إذا بلغ أن يتجوّز في العبارة عنه بهذا الوصف - لا يكون إعجازه إلا على قدر ما