في جهة، وتراه مرة ماثلاً ومرة زائلاً، بل صار كأنه روحٌ للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي - فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون
خلقاً روحياً؛ وكأنه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضحع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة.
ولو تأملت هذا المعنى فضلاً من التأمل، وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه، لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم، بحيث لو خلا منه لأشبه أن يكون إعجازه صناعياً عند العرب - أن بقي معجزاً - ولو هم فقدوا فقدوا هذا المعنى من أكثره أو من أقله، لقد كانوا وجدوا مذهباً فيه
للقول ومساغاً للرد، ولظلوا في مريَة منه، ثم لسارت عنهم الأقاويل في معارضته واعتراضه.
ذلك بأن صوت النفس طبيعي في تركيب لغتهم، وإن كان فيها إلى التفاوت كمالاً ونقصاً،
وصوت الفكر لا يعجزهم أن يستبينوه في كثير من كلام بلغائهم، أما صوت الحس فقد خلت لغتهم من صريحه وانفرد به القرآن وقد كانوا يجدونه في أنفسهم منذ افتَنوا في اللغة وأساليبها
ولكنهم لا يجدون البيان به في ألسنتهم؛ لأنه الكمال اللغوي الذي تعاطوه ولم يغطوه، وإنَّما كانوا يبتغون الحيلة إليه بألوان من العادات وضروب من التعبير النفسي، إذا هي اتصلت بالحسق البياني
الذي ميزتهم به الفطرة أشبهت أن تكون استواء حسياً، وبهذا خلص إليهم كلام شعرائهم وخطبائهم.
وبلغ من أنفسهم ومازجها، وكان منها في محل وموقع؛
على أننا نقرأ اليوم أكثره ولا نجده بتلك المنزلة.
وإنَّما مثل ذلك كمن يفتتن بالجمال، فهو إذا رأى الوجه الجميل كانت نظرته إليه كلاماً نفسياً لو جهد البلغاء جهدهم على أن يحكموه بالعبارة كما هو في نفسه لأعيتهم وسائل البلاغة أن يمهدوا منها لهذه الحالة النفسية، ولجاؤوا من كلامهم بالحسِّ المغمور الذي لا يعدم النقص
والاضطراب مما حسبوه قد تكامل واستقر.
وهذا مثالٌ يطرد في كل ما أنت واجده من البلاغة العربية.
فلا ترى شيئاً منها يروعك ويملك عليك المذاهب من نفسك بالتئام أجزائه ورشاقة معرضه وحسن تصويره، إلا وقعت منه
على ضرب من الاستعانة بالخيال الشعري أو العادة الثابتة أو العاطفة المطمئنة أو نحوها.