لم تعْد للعرب في غرابة أوضاعها التركيبة، وهم أهل الوضع والمتصرفون في اللغة بقياس القريحة وعلى أصل الفطرة - هو مما يحقق إعجازه الأبدي على وجه الدهر، إذ يستحيل بَتَّةً أن يتفق لغير أولئك العرب في باب، إفراداً وتركيباً على طرقه المعروفة ما اتفق للعرب، ولا بعضه، ولا قليل
من بعضه، إلا إذا انشقت من لغتهم لغة أخرى على غير سَنَنها وأصولها، كما ترى في غرابة كثير من الأوضاع العامية في كل لهجة من لهجاتها، لأن هذا الانشقاق وضغ جديد جاء من تكييف
المادة اللغوية على وجه غريب، وإن كانت هذه المادة في نفسها قديمة.
وكل العلماء قد مضوا على أن ألفاظ القرآن بائنة بنفسها، متميزة من جنسها فحيثما وجد منها تركيب في نسق من الكلام، دل على نفسه وأومأت محاسنه إليه ورأيتَه قد وشحَ ذلك الكلامَ وزينه
وحرك النفس إلى موضعه منه؛ وهو بعد أمر واقع لا وجه للمكابرة فيه، ولا نعرف له سبباً إلا ما بيناه من الصفة الإلهية في معانيه، وغرابة الوضع التركيبي في ألفاظه، فإن ذلك يتنزل منزلة الوضع
الجديد في الكلام المألوف، فلا ينبئ الوضع الغريب عن نفسه بأكثر مما تدل عليه ألفةُ المأنوس الذي يحيط به.
ومن أجل ذلك كله قلنا إن العرب أوجدوا اللغة مفردالب فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة؛ وأن لهذه اللغة معاجم كثيرةَ تجمع مفرداتها وأبنيتها، ولكن ليس لها مُعجم تركيبي غير القرآن.
وإنما سميناه " المعجم التركيبي " لأنه أصل فنون البلاغة كلها فما يكون في المنطق العربي نوغ بليغ إلا هو فيه على أحسن ما يمكن أن يتفق على جهته في الكلام، وقد رأيناه في كل أنواع
البلاغة يجنح إلى الوضع والتأصيل حتى أنك لو قابلت ما فيه من أمثلتها بأحسن ما استخرجه العلماء من جملة كلام العرب، لأصبتَ فرق ما بين ذلك في سمو الطبيعة اللغوية وأحكام البيان وانتظام محاسنه، كالفرق الذي تكشفه المقابلة ما بين النبوغ والتقليد ولله المثل الأعلى.
ولقد كان هذا القرآن الكريم بما استجمع من ذلك، هو (علم البلاغة) عند أولئك العرب الذين كانت البلاغة فيهم إحساساً محضاً، ثم صار من بعدهم بلاغة هذا العلم في المولدين، وهو على ذلك ما بقيت الأرض، فكان العرب يثلقون عنه البلاغة بوجدانِ الحاسة اللغوية وإحساس الفطرة، كما يتلقى أهل الفن الواحد قواعد النبوغ عن المثال الذي يخرجه لهم نابغة الفن.


الصفحة التالية
Icon