أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسم منها أروعَ ما عسى أن تدل عليه دلائل الحكمة، وسمةُ الفضيلة، وشدةُ النفس وبُعد الهمة، ونفاذ العزيمة، وإحكام خطةِ
الرأي، وإحراز جانب الخلق الإنساني الكريم.
وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها وتجمع الإنسانيةَ بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه مَلك من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلكَ من الأفلاك، وما خص بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكونَ ويعمَّه، ولا كان فرداً في أخلاقه إلا لتكون
من أخلاقه روح الأمة.
وإذا رَجعتَ النظر في تلك الصفات الكريمة واعتبرتها بآثارها ومعانيها رأيت كيف يكون الأساس الذي تُبنى عليه فراسةُ الكمال في نوع الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روحُ الإنسان في أعماله، أو أثرُ هذه الروح، أو بقيةُ هذا الأثر،
فإذا تأملتها متسقة وتمثلتها قائمة في جملة النفس، وأنعمتَ على تأمل صورها الكلامية التي تبعث الكلام ونزِنه وتنظمه وتعطيه الأسلوبَ وتجمله بالرأي وتزينه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغَ ما
أنت واجده من الأساليب العصبية في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعف، ولا تزايله الحكمة ولا تخذله الروية، ولا يباينه الصواب، بل يخرج رصيناً غير متهافت، متسقاً غيرَ
متفاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يَضبطه العقل، ولا يتوثب به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من
جوانبه بل تراه على استواء واحدٍ في شدة وقوة واندماح وتوفيق.
وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قفما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم.
وقلما يكون أبلغ الناس وأفصحهم في كل دهر إلا عصبياً على تفاوت في نوع المزاج وحالته؛ فإن من الأمزجة العصبي البحتَ، والمنحرفَ إلى مزاج آخر ولكل من النوعين حالة قائمة بالكلام،
وصفة خاصة بالأسلوب.
وبالجملة، فإن الندرة في الأساليب العصبية: أن تجد منها ما إذا أصبته موثق السردِ متدامج الفقرة محبوك الألفاظ جيد النحت بالغ السبك - أن تجده مع ذلك رصيناً متثبتاً في نسقِ معانيه وألفاظِه، لا يتزيد بهذه ولا يتكثر بتلك: لا يخالطه من فنون الأقاويل ما تستطيع أن تنفيه، ولا يتولاه ما تتأتى إليه من وجه التخطئة؛ وأن تجده بحيث يمتنع أن تقول فيه قولا، أو تذهب فيه
مذهباً؛ وبحيث تراه من كل جهة مُتسايراً لا يتصادم ومُطرداً لا يتخلف.
ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوباً يجتمع له من تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواء في الحدة والرصانة، مبنياً من الفكرة بناءَ الجسم من اللحم، متوازناً في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مَسْحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار: وتراه في ظاهره
وحقيقتِه كالنجم المتقِدِ: يكون في نفسك نوراً وهو في نفسه نار.


الصفحة التالية
Icon