العرب عن معرفة، ومعرفة عن عيان، وعيان بعد استقصاء، واستقصاء عن رغبة في هذا العلم وتحصيله والمعرفة به مع قوة الفطرة وسلامتها ليس وراء ذلك في صحة الدليل مذهب من مذاهب التاريخ.
على أنه لا يؤخذ مما قدمنا أنه - ﷺ - لم يكن يطيل الكلام إن رأى وجهاً للإطالة، فقد كان ربما فعل ذلك إن لم يكن منه بد، وقد روى أبو سعيد الخدري أنه - ﷺ - خطب بعد العصر فقال:
" ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعلمون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء! ألا لا يمنعهن رجلاً مخافة الناس أن يقول الحق إذا علمه! ".
قال أبو سعيد: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال: " إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى! ".
قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بيد أن الإقلال كان الأعم الأغلب، حتى ورد أنه كان بقصرِ الخطبة،
فروى أبو الحسن المدائني قال: تكلم عمار بن ياسر يوماً، فأوجز، فقيل له: لو زدتنا! قال: أمرنا رسول الله - ﷺ - بإطالة الصلاة وقَصر الخطبة.
وقد ورد في الحديث: (نحن معاشر الأنبياء فينا بكاء)، أي قلة في
الكلام، وهو من بَكأتِ الناقةُ والشاةُ إذا قل لبنها، وتأويله على ما بسطناه آنفاً.
غير أن ههنا فصلاً حسناً لأديبنا الجاحظ ساقه في كتاب (البيان) وقد أورد هذا الحديث بلفظ آخر، وظن أن بعضهم ربما تأوله على جهة الحصرِ والقلة، وعلى وجه المعجَزة والضعف، أو خطر له ذلك الهاجس، بما يعطيه ظاهر اللفظ؛ وكل امرئ ظَنين بدعواه فكتب ما كتب يستدفع به
الظن ويصافحُ اليقينَ، وقد رأينا أن نحصِّلَ كلامه توفية للفائدة، وبسطاً لما لم نبسطه إذ كان هو قد سبق إليه.