فكقوله في رواية البَراء: إنه رأى النبي - ﷺ - على بغلة بيضاء يوم أُحد ويقول:
أنا النبى لا كذب... أنا ابن عبدِ المطلب
والثاني كقوله في رواية جندب إنه - ﷺ - دَمِيَت أصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبعٌ دميتِ... وفي سبيل الله ما لقيتِ
وإنما اتفق له ذلك، لأن الرجز في أصله ليس بشعر إنما هو وزن؛ كأوزان السجع؛ وهو يتفق للصبيان والضعفاء من العرب، يتراجزون به في عملهم وفي لعبهم وفي سَوقِهم، ومثل هؤلاء
لا يقال لهم شعراء، فقد يتسق لهم الرَجزُ الكثير عفواً غير مجهود، حتى إذا صاروا إلى الشعر انقطعوا.
وإنما جَعل الرجزَ من الشعر تتابع أبياته، وجمعُ النفس عليه، واستعماله في المفاخرات والمماتنات ونحوها، وأنه الأصل في اهتدالْهم إلى أوزان الشعر، كما سنفصل كل ذلك في الجزء
الثالث من تاريخ آداب العرب إن شاء الله، فأما البيت الواحد منه، فليس في العرب جميعاً، ولا في صبيانهم وعبيدهم وإمائهم من يأبه له، أو يعده شعراً، أو ياذن لوزنه، أو يحسب أن وراءه أمراً
من الأمر: إنما هو كلام كالكلام لا غير.
ولقد كانت الأوزان فطريةً في العرب، فهي في الرجز، وهي في السجع، وهي في الشعر، جميعاً، ولم يعلم أنه - ﷺ - اتفق له في الرجز أكثر من بيت واحد، أو تمثل منه بأكثر من البيت
الواحد كبيت أمية بن أبي الصلت:
إن تغفِر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألمَّا
وإنما كان له ذلك في الرجز خاصةَ دون الشعر، لأن الشطرين منه كالشطر الواحد في الوزن والقافية، لا يبين أحدهما من الآخر؛ وبخاصة في هذين الضربين المنهوك والمشطور، وهما بعد ذلك كالفاصلتين من السجع، لا يمتازان منه في الجملة إلا بإطلاق حركة الروي، ومن أجل هذه
العلة لم يتفق له في غيرهما شيء، وهو - ﷺ - كان يقيم الشطر الواحد من الشعر كما علمت، لأن
مَجازَه على انفراده مجاز الجملة من الكلام؛ فلا يستبين فيه الوزن، ولا يتحقق معنى الإنشاد، ولا تتم هيئته من الإيقاع والتقطيع والتشدق ونحوها؛ فإذا صار إلى تمام البيت من المصراع الآخر،
وهمَّ الوزن أن يظهر، والإنشاد أن يتحقق، وأوشك الأمر أن يمتاز بما ينفرد به الشعر في خواصه التي تبينه من سائر الكلام كسرَ وخرج بذلك إلى أن يجعل البيت كأنه جملة مرسلة من الكلام،
على ما كان من أمره في الشطر الواحد.