الكلمتين، أو الكلمات القليلة القليلة.
ولو ذهبت تحصيه في العربية ما رأيته إلا معدوداً، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العد وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة الخاصة، حتى لا تساويها في ذلك لغة أمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بعض وكل، وإن عدوا لنا واحداً " صفرناه " ولا فخر.
وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسائل بين أيدينا؛ فخذ فيها
حيث شئت فإنه كلأ: حابس فيه كمرسل.
على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواء ورأيت كلامه - ﷺ - في تلك الحال
خاصة مما يطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلة تطوع لك القدرة عليه وتمد لك أسباب المطمعةِ فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقاً ألبتة،
إذ لا تحس منه نفساً إنسانية، ولا أثراً من آثار هذه النفس، ولا حالة من حالاتها حتى تأنسَ إلى ذلك على التوهم، ثم تتوفم الطمع والمعارضة من هذه الأنسة، فتمضيَ عزمكَ وتقطعَ برأيك،
وتبتُّ القول فيه - كما يكون لك قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاج،
ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحسَ والعيان،
ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.
بَيدَ أن ذلك مما لا يستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلت منه وفاتت سَمت ما قدرتَ لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلاً إلى حدها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها
كلاماً تعرف حدَّه في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحس.
وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأن لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قول الجاحظ في (كتاب النبوة) وإن كان لم يهتد إلى تعليله:
" لو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم - أي العرب - سورة قصيرة أو طويلة، لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها ".