ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومهاونته، بل هو أمر فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما توجد في نفس الإنسان غير صفاتها
الإنسانية بالغة ما بلغت ونازلة حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوَطأ له بأسبابه لا تحدثه غيرُ أسبابه،
وما عرف الناس يوماً من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنساناً أخرج من نفسه غير ما في نفسه.
ومن خواص القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصاً من طبيعته، وذَهاباً عن قصده وسَنتِه، فكلما اندفع إلى ذلك ارتد بمقدار ما يندفع، وكلما كد طبعهُ رأى من تبلده على حساب ما يَكده فإذا ترك ذلك حيناً فعفا من تعبه وتراجع إليه
الطبع ثم عاد، كانت الثانية أشد عليه من الأولى؛ لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس وهكذا حتى يكون هو أولَ من يتهم نفسه بالعجز، ويرمي طبعَه بالاختيال، ويصفُ كلامه
بالنقص، فإنه إنما يطمح في تلك المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنها، بل يمنعها مما تُنازعُ العملَ عليه، ويردها عن وجهها ويشق عليها في النزوع، ويُكدرُ بها تكديراً يُفسد عليها كل ما هي فيه من ذلك العمل،
فليست تجد منه أبداً إلا طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صُنِعَت عليه ونشأت فيه.
فإذا طال ذلك به وبها، أمات حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضربها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدَى طبعه فيما كان ينجحُ فيه، وتبدل من شأنه الأل شأناً ثانياً كيفما أداره رآه سواء غير مختلف.
وذلك كله من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.
وضربٌ آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي - ﷺ - غيرَ ما مرت مُثلُهُ من ذلك النحو الذي يكون مُجتمعاً بنفسه منفرداً في الكلم القليلة، وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم
اللمحَة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالةُ، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوت عليها كلاماً طويلاً، والوقوف عندها شأواً بعيداً وهو القليل في
كلام البلغاء إلى حد النذرة التي لا يُبنى عليها حكم، ولكنه كثير رائع في البلاغة النبوية، لما عرفْتَ من أسباب قلة كلامه - ﷺ -، فإن هذه القلة إن لم تنطو على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي
بالكثرة من غيره، ولا تُعَد في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلها في الكلام فضلاً، ولا يعرفُ أمرها في البلاغة أمراً.
فمن ذلك حديث الحدَيبية، حين جاءه بُدَيل بن ورقاء يتهدده ويحذره فقال له، إني تركت


الصفحة التالية
Icon