واستيعاباً لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله - ﷺ -. فإن الصحابة كانوا
يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرأون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كتبت عند عثمان رضي الله تعالى عنه
وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاة إلى أبي بن كعب فيها
(لم يَتسَن) و (فأمهل الكافرين)، و (لا تبديل للخلق) قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب " لخلق الله " - ومحا
" فأمهل " وكتب (فمهل) وكتب (يَتسَنه) ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم.
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراجُ الأساليب الجدَلية من كل حكم وكل قول " إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حَفَظته الذين جمعوه وعرضوه،
ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جُمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله - ﷺ - لم يأته الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطلُ شيئاً.
ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضلَ اختلاف، وتتسَنم في الروايات والتأويل كل طريق وعر؛ كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعاً لا يَتدارأ فيها الرواة، مَن علا منهم ومَن نزل، وإنما كان ذلك لأن القرآن أصل هو
الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن؛ وتألب الأحداث وحين رجع بعض الناس من النفيس
إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترأوا على حدود الله
وضربتهم الفتنُ والشبهات مقبلاً بمدبر ومدبراً بمقبل. فصار كل نزع إلى الاختلاف، يريد أن يحمل
من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يَتَدسس في الرواية بمكروه يكون
معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعنف بها فهي
أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها من الحق وجهاً.
ونحسب أن أكثر ذلك مما افترته الملحِدة وتزيْدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغياً بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ويرى فيه حجته على مذهبه وبَينتَه على دعواه